الكريسماس وأساتذتي الأقباط.. .

مع اقتراب الكريسماس هذا العام جال بخاطري ذكريات عزيزة لهذا العيد، فقد كان لاستاذي الأول رشاد رشدي صديق وزميل العمر هو الدكتور لويس مرقص.. زامله منذ ان كانا طالبين يدرسان الدكتوراه في الادب الانجليزي في انجلترا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.. وكما كان د. رشاد رشدي أول رئيس مصري لقسم اللغة الانجليزية وآدابها بجامعة القاهرة. كان د. لويس مرقص أول رئيس لقسم اللغة الانجليزية وآدابها بجامعة عين شمس.. وحتي ظهور نادي المسرح الي الوجود لم يكن لويس مرقص أكثر من استاذ اكاديمي معروف داخل أوساط المتخصصين في هذا الفرع من فروع الدراسة الجامعية ولقد كانت كل صلتي به قبل انشاء مسرح الحكيم ونادي المسرح ان اصطحب استاذي في يوم عيد القيامة من كل عام الي منزل لويس مرقص بشارع رمسيس بالقرب من الكنيسة المرقصية، وقد حمل رشاد معه بيضة ضخمة من الشيكولاته ملفوفة بالورق المفضض اعتاد ان يشتريها في هذه المناسبة من محلات جروبي بوسط البلد كهدية العيد.. وكنت امكث مع استاذي برهة من الوقت مهنئا تلك الاسرة القبطية المصرية بعيدها.. يمضي الوقت في مجاملات رقيقة وهم يجلسون جميعا في صالون الشقة المكتظ بالكراسي المذهبة المنجدة بقماش 'الأوبيسون' الذي ظهر عليه القدم وكأنه يعلن عن بقايا عز قديم مضي.. ويستمتعون جميعا بشرب الشاي وأكل 'الكيكة' باللبن والزبد والزبيب التي صنعتها ربة المنزل بيديها دليلا علي مهارتها الفائقة وقدرتها في المحافظة بمنزلها علي مظهره البورجوازي ذي التقاليد العريقة. وعلي الجدران في كل مكان كنت اري صورا وتماثيل للمسيح المصلوب بوجهه النوراني الكسير، ومريم العذراء بجمالها البسيط والأخاذ معا.. فيستقر في وجداني ان هناك من المصريين من يدينون بدين آخر غيرالاسلام الذي ادين به، وان هذا الاختلاف في الدين لا يمنع مطلقا من ان اشعر انا واستاذي بالقرب الشديد من هذه العائلة القبطية وكبيرها الدكتور لويس مرقص.. بل كنت اشعر بعمق ما يربط استاذي بزميله وصديقه المسيحي من رباط الاخوة والحب.
ولم تكن مصر في ذلك الوقت 'الستينيات من القرن العشرين' قد عرفت ما عرفته بعد ذلك من مظاهر التشنج الديني الذي ظهر علي سطح المجتمع في فترات متفرقة ولايزال، فقد كانت آثار عصر التنوير مازالت تحكم الحياة الاجتماعية والعلاقات الانسانية بين المصريين الذين بنوا نهضتهم الحديثة علي ان الدين لله والوطن للجميع.
وحتي انشاء مسرح الحكيم لم تكن لي اية علاقة بالدكتور لويس مرقص سوي تلك الزيارات السنوية مع استاذي للتهنئة بعيد القيامة. وفجأة ظهر لويس مرقص في مسرح الحكيم واعلن رشاد رشدي انه سوف يدير نادي المسرح.. وبدأ نادي المسرح في مزاولة نشاطه باشراف الدكتور لويس.. وكأنما كان الدكتور لويس مرقص ينتظر بعد حياة أكاديمية مغلقة وطويلة هذه اللحظة حتي يلعب دورا أوسع في حياة المجتمع، وحتي يخرج من سجن الجدران الاكاديمية الي رحابة الحياة العامة، فطفق ينظم برنامجا كثيفا من الندوات الاسبوعية والتجارب المسرحية والمحاضرات 'وورش' التدريب علي الفنون المسرحية المختلفة من تمثيل وتأليف وتصميم ديكور.. وبدأ الجميع يشعرون بأن مبني المسرح هو بيتهم الحقيقي.. يقضون فيه من الوقت اكثر مما يقضون في بيوتهم او اعمالهم الاصلية.. يأكلون معا ويعملون معا، ويسمرون معا وهم جالسون في مدخله الاساسي في آخر المساء.. ويشعرون بالحزن الدفين اذ هم فارقوه مع نهاية الليل كل الي بيته لينام.. وهكذا اندمج ايضا الدكتور لويس مرقص في هذه الحياة التي كانت جديدة عليه تماما. وهو الذي اعتاد طيلة حياته الاكاديمية ان يعود من محاضراته في الظهيرة الي بيته يلازمه حتي صباح اليوم التالي.. وكأن هذا الحماس الدافق الذي يشعر به الجميع نحو المسرح وما خلقه من مناخ فني وفكري، بل ما بعثه ايضا في نفوس الجميع من متعة شخصية لا حد لها، قد حول الدكتور لويس مرقص بجسده الضخم وطوله الفارع ونظارته الطبية السميكة وصلعته الخفيفة من استاذ اكاديمي هاديء ومنعزل الي انسان آخر تماما دائب الحركة، واسع الابتسامة دائما، صاخب التعليقات والقفشات، منهمكا دائما وكأنه والد العروس في اللحظات التي تسبق زفاف ابنته!
وكانت ندوات 'نادي المسرح' التي ينظمها الدكتور لويس مرقص ظاهرة اعتقد انها لن تتكرر بعد ذلك.. فقد كان جمهور هذه الندوات يعد بالمئات واحيانا كانت صالة مسرح الحكيم التي تتسع لاكثر من الف كرسي تمتليء عن اخرها بالناس الجالسين منهم والواقفين فلا تكاد تجد موقعا لقدم.. اناس مصريون عاديون جاءوا لا ليتفرجوا علي مسرحية هزلية أو ليضحكوا علي قفشات مرتجلة لممثل فكاهي، وانما ليستمعوا الي كلام شديد الجدية في النقد الادبي والمسرحي ويستمرون في اماكنهم احيانا الي منتصف الليل أو يزيد دون ملل او كلل. وقد اشترك في هذه الندوات كل من كان له علاقة تقريبا بالمسرح والفنون او بالنقد والادب من كتاب ونقاد وفنانين ومخرجين.. وكان نصيبي الاشتراك في عدد من هذه الندوات. يذكر منها ندوة عن مسرحية عطيل مع الاستاذ حمدي غيث وبعض فناني العرض الذي قدمه حينئذ المسرح العالمي من اخراج وتمثيل حمدي غيث نفسه ادارها لويس مرقص بنفسه وكانت لحظة رهيبة اذ وجدت نفسي لاول مرة امام هذا الحشد من الناس وعليٌ ان اتغلب علي خجلي واتكلم واناقش واعلق واجيب علي اسئلة الجمهور المهتم، ولكن بعد عدة لحظات ومع الحماس الدافق من جانب المنصة والجمهور علي السواء نسيت نفسي ولم اشعر الا وانا اضع كل معلوماتي الاكاديمية وحبي الجارف لاعمال شكسبير في خدمة المناقشة وشعرت باستحسان الجميع لما قلته فأحسست بسعادة عظيمة واصبحت بعد ذلك استمتع كثيرا بالاشتراك في مثل هذه الندوات.
وأذكر ان انشاء نادي المسرح تزامن مع خروج بعض اعلام اليساريين من المعتقلات بعد صدور قرار عبدالناصر بالافراج عنهم وعودتهم الي الحياة العامة واسناد المناصب الهامة الي بعضهم تنفيذا للعبة القط والفأر التي كان كثيرا ما يمارسها عبدالناصر مع قيادات اليسار المصري حيث كان يعتقلهم فترة قد تطول وقد تقصر يشهدون خلالها شتي ضروب التعذيب ثم فجأة يفرج عنهم ويغدق عليهم المناصب، ويعود الي اعتقالهم مرة اخري وهكذا حتي انتهي به وبهم الحال مع صدور القرارات الاشتراكية في اوائل الستينيات الي اقناعهم بحل تنظيماتهم السرية والانضواء تحت لواء الاتحاد الاشتراكي. وكانت خطوة جعلت بعض شباب اليسار  او بالاحري المتشددون من اعضاء التنظيمات الشيوعية  يتهمون هذه القيادات بالترهل الثوري والاستسلام لعبد الناصر الذي لم يكن يعد في نظر هؤلاء سوي قائد عسكري من ابناء الطبقة البورجوازية.
هذا الجمهور المحتشد في صالة المسرح يعلن نيابة عن الاغلبية الصامتة من ابناء الشعب المصري استنكاره لاعتقال المفكر  أو الانسان عموما بسبب آرائه وبلا جريمة ارتكبها سوي ان له رأيا يختلف عن آراء الجالسين علي مقاعد السلطة.. وشعرت ايضا ان تصفيقهم الحاد لمحمود العالم هو في الحقيقة تصفيق لمعني اكبر واشمل وهو الحرية!
واذكر ان تلك الندوة كانت تدور حول مسرحية يوسف ادريس 'الفرافير' التي اخرجها كرم مطاوع واثارت جدلا عنيفا بسبب شكلها المسرحي الجديد الذي دعا اليه يوسف ادريس في مقالاته الثلاث المشهورة بمجلة 'الكاتب' الي ضرورة استلهام اشكال 'المسرحة' الشعبية كالسامر وغيره في خلق مسرح مصري صرف يختلف في بنائه عن الشكل الغربي الذي استوردناه حين دخل هذا الفن الي بلادنا العربية مع 'بخيل' مارون النقاش التي عرضت في صيدا بلبنان عام 1848 كما اثار موضوعها ايضا الذي يدور حول العلاقة الازلية بين السيد والمسود، 'أو الفرفور' ضجة كبري بسبب خروج هذا الموضوع عما كان مألوفا ايامها من موضوعات واقعية مأخوذة من شرائح الحياة الاجتماعية في مصر سواء في المدينة أو الريف. كانت 'الفرافير' مسرحية جديدة تماما سواء من ناحية شكلها الفني او موضوعها او اخراجها الذي سخر فيه كرم مطاوع كل موهبته الصارخة وكل خبرته التي اكتسبها من دراسته لفن الاخراج في ايطاليا.
ويبدو ان موضوع العلاقة الازلية بين الاسياد والفرافير او بين السيد والمسود والذي انتهي يوسف ادريس في مسرحيته الي انها لايمكن ان تقبل المصالحة، اذ سيظل المسود دائما دائرا في فلك السيد الي ابد الآبدين اثارت الكثير من التحفظات لدي محمود العالم الذي كان يري ضرورة انتصار المسود في النهاية الذي يمثل من وجهة نظره نظرة طبقة البروليتاريا او الطبقة العاملة، فأعلن في الندوة ان نص الفرافير ليوسف ادريس هو نص غير ثوري، وان يوسف ادريس نفسه قد تراجع في هذه المسرحية عن ثوريته المعهودة.
ومن وسط الصالة وقف رجل نحيل جاحظ العينين ممصوص الخدين يرتدي بذلة غامقة ورباط عنق داكنا طالبا الكلمة ليعقب علي محمود العالم.. ولما كان هذا الرجل معروفا بثوريته ايضا فقد صمتت الصالة والمنصة معا للاصغاء الي كلمته.. وفي عبارات قصيرة حادة كطلقات الرصاص وجه حديثه الي محمود العالم قائلا انه ليس من حق احد كائنا من كان ان يحدد من هو الثوري ومن هو غير الثوري.. كما ان احدا لم يفوض محمود العالم في تحديد معني الثورية.. وان الفكر لا يجب ان يفرض نفسه علي الفكر.. وانما الصيغة الوحيدة المقبولة لاحراز التقدم هي الحوار.
ألم يكن هذا الرجل العادي الموجود بالصالة يعبر في ذلك الزمن السحيق عما نطالب به الآن؟!

شكرا علي الموضوع

مشكوررررررررررررررررر

thanks 4 your topic

رائععععععععععععععع

شكرا علي الموضوع